الخميس، 13 أكتوبر 2011

الدلالات الدونية لعبارة "أنثى"في الذاكرة الجماعية

"الدلالات الدونية لعبارة "أنثى"
فـي الـذاكرة الجمـاعيـة
بيـن الوضـوح والغمـوض

فاطمة كدو
أستاذة باحثة بجامعة ابن طفيل
كلية الآداب

بدءا، لا بأس من التذكير بأن مسألة الغموض والوضوح في الأدب لا تتعلق بأسلوب كاتب، أو فكرته الأصلية التي بنى عليها عمله (قصة، رواية، شعر، مسرح...) بل هي مرتبطة بالبنيات الذهنية التي يرتهن إليها الكاتب من خلال تجاربه الحياتية اليومية. وبقدر تأزم (غموض) أو انفراج وبساطة (وضوح) هذه التجارب، تأتي تمثلات البنيات الذهنية في المشروع الأدبي للكاتب، لتعكس في ذات الآن حضور المجموعات الاجتماعية من خلال هذه التمثلات. وهو ما أكد عليه لوسيان كولدمان (Lucien Goldman) في مشروعه البنيوي، حيث أبرز بأن "العلاقة الجهورية بين الحياة الاجتماعية والإبداع الأدبي لا تتعلق بمضمون هذين القطاعين من الواقع الإنساني، بل تتعلق فقط بالبنيات الذهنية، أي بهذه المقولات التي تنظم في نفس الوقت الوعي التجريبي لمجموعة اجتماعية والعالم المتخيل من قبل الكاتب، وبالتالي فإن هذه البنيات الذهنية ليست ظواهر فردية بل هي ظواهر اجتماعية" .
إن المجموعة الاجتماعية الممثلة للكاتبات المبدعات في تعاطيها مع المتخيل والإنتاج الإبداعي لا تنطلق من منطلقات فردية تعكس تجربة كل كاتبة بشكل انفرادي، بل هي تعكس المجموعات الاجتماعية التي تفاعلت معها، ذكورا وإناثا. بدءا من المقولات المشكوكة حول المرأة وطرق إنشائها وتربيتها وتوجيهها وجهة الجهالة والإقصاء والتهميش، ومن ذلك على سبيل الذكر لا الحصر النصيحة المأثورة لخير الدين نعمان بن أبي الثناء كما سيأتي ذكر ذلك لاحقا.
إن عبارة "أنثى" التي هي محور حديثنا هنا من خلال رواية "حين كنت رجلا: للكاتبة اللبنانية إلهام منصور تجسد الغموض الذي تتخبط فيه "الأنثى" ما بين حالات تأنيب وتعذيب للذات الأنثى وبين تعنيف لها على مستوى وأد بعض رموز هذه الأنوثة دون معرفة الأسباب المقنعة ولا المبررات، حيث تكتفي الأنثى بترديد عبارات "ليتني لم أولد أنثى" لعن الله اليوم الذي ولدت فيه أنثى".
سنة 1989 أوصى خير الدين نعمان بن أبي الثناء في كتابه المعنون ب"الإصابة في منع النساء من الكتابة" ، بما يلي : "أما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله، إذ لا أرى شيئا أضر منه بهن، فإنهن لما كن مجبولات على الغدر كان حصولهن على هذه المَلَكة من أعظم وسائل الشر والفساد، وأما الكتابة فأول ما تقدر المرأة على تأليف الكلام بها، فإنه يكون رسالة إلى زيد ورقعة إلى عمر، وبيتا من الشعر إلى عزب وشيئا آخر إلى رجل آخر، فمثل النساء والكتب والكتابة، كمثل شرير سفيه تهدي إليه سيفا، أو سكير تعطيه زجاجة خمر، فاللبيب من الرجال من ترك زوجته في حالة من الجهل والعمى فهو أصلح لهن وأنفع.
إنها رسالة مهمة تكشف ذاك الهامش الذي عملت الثقافة الذكورية لأمثال نعمان بن أبي الثناء على محاصرة المرأة فيه زمنا طويلا. وهو أيضا استحضار للبعد الإبداعي الذي عرفه قلم المرأة في الرواية والقصة والدراما المكتوبة. والذي قوض ولا شك وصية ابن أبي الثناء. وهذا الكلام حسب الناقد السعودي عبد الله محمد الغذامي : "ما هو سوى رقية لتحصين مملكة الرجل اللغوية ودفع المرأة عنها لكي تظل الكتابة احتكارا ذكوريا" .
وهذا الفرزدق يقول في امرأة قالت شعرا : "إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها" .
إن هذا النسق الثقافي العام الذي صدر عنه كلام كل من نعمان بن أبي الثناء والفرزدق، وغيرهما كثير، إنما يؤشر على المركز الأصل الذي تمثله الثقافة الذكورية، والهامش الذي تمثله المرأة، والذي يجب أن يظل مجرد تقليد ونسخة مشوهة للأصل. وهكذا يرى عبد الله محمد الغدامي في "معضلة النسق الذهني الفحولي أنه نسق مغلق لا يبصر ما هو خارج الذات ولا يتنبه إلى المغاير والمختلف" .
والإبداع عند المرأة هو نفسه في المغرب وفي المشرق خاضع لنسق ثقافي فحولي، مهما تباينت مضامين هذا الإبداع واختلفت مواضيعه من مبدعة إلى أخرى. ونكتفي هنا من باب التذكير فقط بما أحيط به مصطلح الأدب النسائي أو الكتابة النسائية أو أدب المرأة...من نقاش حاد رفض من خلال أغلب النقاد أن يكون للمرأة إبداعها الخاص، وأن يصنف حسب جنس الكتابة داعين إلى اعتماد مبدأ الإنسانية والكلية التي لا ينبغي أن تتجزأ، معتبرين أن الكتابة هي كتلة واحدة لا تقبل التقسيم الجنسي بين أدب ذكوري وآخر نسائي أو أنثوي. وقد أيد هذا المنحى عدد مهم من المبدعات والناقدات، بدعوى أن تصنيف الكتابة عند المرأة في خانة التجنيس، إنما من شأنه أن يزج بهذه الكتابة إلى الهامش على حساب مركزية ذكورية فحولية. ناسيات أو متناسيات، أن الحديث عن مبدأ الإنسانية والكلية لا يطفو إلى السطح إلا حين يتم الحديث عن الكتابة ويختفي عندما يتعلق الأمر بمبدأ الإنسانية في الحقوق والواجبات الاجتماعية.
فهل يخشى النسق الذكوري من هذا التقسيم الإبداعي التجنيسي بُعدَه القيمي؟ أي الخوف من أن يحتل الإبداع النسائي على مستوى الكتابة، مكانة متقدمة على مستوى تحليل الواقع وفضحه مكتسبا بذلك شريحة كبيرة من المتلقين / القراء والمتعاطفين؟
وبالتالي سيكون لذلك أثر على مستوى فضح أزمة المثقف العربي التي تحدث عنها علي حرب وعبد الله العروي وغيرهما، وما تبع ذلك من دق لآخر مسار في نعش المثقف العضوي الذي انكسر تحت سياط الهزائم المتكررة بدءا من هزيمة 48 إلى سقوط بغداد.
إننا مع مصطلح "الكتابة النسائية" لأنه يؤسس الاختلاف، لأن المرأة تكتب بجسدها الذي ظل لقرون طويلة رمزا للدونية وللضعف وللقهر والاستعباد. وما دام الأمر كذلك فإن ما ينتجه هذا الجسد يكون بالضرورة مختلفا. تقول الساردة في رواية الكاتبة اللبنانية إلهام منصور، التي تحمل عنوان : حين كنت رجلا" ما يلي:
"كانوا يرددون دائما أمامي تعليق جدي لأبي حين ولدت؛ يبدو أنه استغرب الأمر كثيرا، وقال لما أُبلغ أن كنته أنجبت طفلة: "مش معقول، مش معقول، ولدت فعلا؟ انتهى الأمر؟" لم يكن يرى أنه من المعقول أن تأتي بنت بعد ولدين ذكرين. هل سمعت ذلك التعليق الذي حتما لم أفهمه في حينه. ولأنني لم أفهمه رميته في لا وعيي كي يحرك كل سلوكي اللاحق؟" .
وتضيف قائلة : "...صحيح أن صورته هي الآن غائبة عني، لكني ما زلت أسمع الصوت الذي ردد منذ سنين: "مش معقول مش معقول" لأني كل حياتي، حاولت دخول هذا المعقول، وللأسف الشديد لم أنتبه إلا مؤخرا أن هذا الدخول في المعقول لم يكن إلا الخروج منه" .
إن غياب صورة الجد إذا كان يؤشر على الذاكرة الطفولية التي لم تحتفظ بملامح الجد، فإنها تؤشر من جانب آخر على أن الصورة لا أهمية لها ولا تحتل نفس القيمة المعرفية التي تحتلها الكلمة التي نطقها الجد عند ولادة أنثى، وكأن الذاكرة الذكورية رغم مرور قرون وقرون لم تستطع بعد التخلص من ثقافة جاهلية عميقة، كما لم تستطع أن تغتسل من معين الآيات الكريمة : "وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون" .
غابت الصورة إذن، وحضرت الكلمة التي ظلت متقدة ومشتعلة، ومن خلالها سيتأسس إبداع المرأة، من خلال "الرفض" من خلال عبارات من قبيل : "مش معقول". ومن خلال حواراتي مع المبدعات وأيضا أبحاثي في هذا المجال –أي إبداع المرأة- وجدت أن أغلبهن قد احتفظ لا وعيهن الطفولي بعبارات من قبيل "مش معقول" إما بشكل مباشر أو عن طريق حكايات الأمهات والخالات والعمات اللائي عملن على تبليغ الطفلات والصبيات عبارات الرفض هاته التي تفوه بها الذكور عندما بشروا بميلاد أنثى. وكأنهن بذلك –أي الأمهات والجدات والخالات والعمات- ينتقمن من هذه الثقافة الفحولية وهذا النسق الثقافي التمييزي، وذلك بتجييش "قبيلة" الإناث وشحنها. وتهييئها للرد على هذا الرفض.
فالعبارة الآنفة الذكر الواردة في رواية "حين كنت رجلا" "كانوا يرددون دائما أمامي تعليق جدي لأبي حين ولدت..." يتضمن معاني الشحن والتدرب على عدم النسيان من خلال عبارة "يرددون دائما"؛ كما تتضمن معاني الإصرار على المواجهة، أي مواجهة الطفلة بالحقيقة المرة، وذلك من خلال عبارة "أمامي" أي في الحضور وليس في الغياب. مع العلم أن الأمهات والجدات والخالات والعمات يدركن بأن طفلة صغيرة لن تعي لحظتها معاني الرفض ودلالاتها، لكن في مقابل ذلك كن يدركن أن ما يزرع اليوم لا يؤتي أكله إلا بعد حين، لهذا قالت الساردة : "لأنني لم أفهمه رميته في لا وعيي كي يحرك كل سلوكي اللاحق"
ويدخل ضمن عبارة "السلوك" فعل الكتابة من خلال تيمات عديدة، لعل أبرزها تيمة "الرفض" وتيمة "الاختلاف".
تقول الساردة :"...هنا وقعت الحادثة التي مازلت أذكرها والتي أعتقد أنها كانت بداية لتساؤلات كبيرة حول شخصيتي. خرجنا من المياه، كنا كلنا عراة تماما، فما كان من أمي إلا أن نهرتني: "يا عيب الشوم". أخذتني بعنف من يدي وألبستني بسرعة اللباس الذي يستر الأسفل من جسدي (...) فعلت ذلك معي وحدي، لم تؤنب إخوتي الصبيان، بل تركتهم يعرضون أجسادهم العارية أمام الجميع، وهم كانوا يتمخترون كالديكة (...) منذ ذلك الحادث تم الربط بين جسدي والعيب. كان أول مفهوم أخلاقي اكتسبته، لكنه مفهوم سيغير مجرى حياتي كلها ؛ جسدي هو العيب. (...) لكن موضع العيب في تلك المرحلة (الصيف الرابع أو الخامس من سني عمري ص 15) كان أسفل البطن فقط إذ أن أعلى الجسد لم يكن مهما، حين نهرتني أمي وصرخت: "يا عيب الشوم" لم تستر من جسدي إلا القسم السفلي، سترت الاختلاف، لأن جسدي في القسم العلوي منه كان تماما كجسد الصبي، إذن لا عيب فيه، لكن هذا العيب الثاني سيظهر يوما وسأستره من تلقاء ذاتي من دون أن يكون لوالدتي دور مباشر في ذلك" .
أبعد هذا –وهو قليل من كثير، وجزء من كل- نبخل على المرأة بأن تكون لها خصوصيتها الإبداعية تسمى باسمها ويشار إليها بجنسها؟
وإذا كانت المرأة تنطلق من جسدها المنبوذ والمقهور والذي يؤشر على الدونية وعلى الاختلاف، فإن كتابتها تأتي حتما مختلفة عنها عند الرجل.
وبالتالي ليس من العسير –كما يقول الناقد حميد لحمداني- "أن نفسر لماذا تمحور المرأة العربية كتابتها حول ذاتها، ذلك أنه في الوقت الذي تكون فيه هويتها موضع تساؤل من طرفها فإنها ستبقى على الدوام مشغولة بتأكيد وجودها ولا يمكن أن يضعف هذا الهاجس الذاتي إلا عندما تختفي الشروط التي تهدد المرأة في حضورها الأنطولوجي" .
ويضيف قائلا : "والمرأة نظرا لتمحورها حول جسدها، فهي تحول هذا الجسد إلى محور للحياة، وعلاقتها مع هذا العالم الخارجي تقدم دائما من منظور علاقة باطنية نفسية" .
وأهم ما يميز هذه الباطنية النفسية التي تحدث عنها الناقد لحمداني هي معاناة المرأة مع جسدها الذي رفضت الثقافة الذكورية ونسقها الاجتماعي إدخاله في باب "المحذور واللامعقول".
إنها معاناة وصلت بالساردة في رواية "حين كنت رجلا" إلى درجة الكره، مفسرة ذلك بما يلي : "هذا الكره لم يكن متعلقا فقط بما يميز جسدي عن جسد الذكر، بل ما كان يزيد من عمقه هو أن هذا الاختلاف كان يتجلى اختلافا في الحقوق والواجبات بيني وبين إخوتي الصبيان (...) كل ذلك جعلني أكره ذاتي وأكره الساعة التي ولدت فيها أنثى. كنت أردد دائما في سري : "ليتني لم أولد" .
وهكذا يؤدي "الاختلاف" و"اللامعقول" إلى كره المرأة لذاتها إلى درجة تتمنى الموت، وهو مؤشر على الخلل الذي يتخبط فيه النسق الثقافي المنتج حول المرأة في العالم العربي المعاصر، وهو ما اعتبره نصر حامد أبو زيد في كتابه "دوائر الخوف" ، بأنه "خطاب في مجمله طائفي وعنصري بمعنى أنه خطاب يتحدث عن مطلق المرأة / الأنثى ويضعها في علاقة مقارنة مع مطلق الرجل / الذكر (...) إنه النسق الفكري الذي يعتمد أساسا على هيمنة عنصر "الذكر" لا على تفاعل حقيقي بين الذكر والأنثى" .
وهكذا "في عصور التأخر والانحطاط يتم إخفاء "النساء شقائق الرجال" ويتم إعلان "ناقصات عقل ودين". ويتحول تحريم اللقاء الجنسي خلال فترة "الحيض" إلى تحريم الحديث معها ومشاركتها الطعام عودا إلى محرمات "التابو" الأسطورية. ويتم استدعاء قصة خروج آدم من الجنة في صياغتها التوراثية، حيث تتوحد حواء بالحية وبالشيطان" .
ولا تؤدي الدلالات الدونية لعبارة "أنثى" فقط إلى كره المرأة لذاتها، بل إنها تدفع بها إلى التنكر لأنثويتها، والسعي نحو التحول القهري إلى التشبه بالرجل، والتمرد على اللغة بإسناد "التاء" إلى لفظة "رجل" : منذ ذلك الحين بدأت أكره جسدي، بدأت أتنكر لأنثويتي لأنها تجسد العيب. هل كان هو الحادث الذي جعلني أسير على درب الرجولة، هل كان هو الحادث الذي بدأت به ومعه أتحول إلى رجلة؟ ربما" .
وكأن إلهام منصور بهذا الانقلاب ضد اللغة وضد جسدها تعيد من جديد المحاولة التي قامت بها نازك الملائكة عندما اقتحمت مملكة الرجال "أقصد نازك المرأة الأنثى التي حطمت أهم رموز الفحولة وأبرزت علامات الذكورة وهو عمود الشعر" .
لقد حاولت إلهام منصور من خلال الملحق المرفق بالرواية إعادة الاشتغال على مصطلحات من قبيل "المرأة" و"الرجل" و"الأنثى" و"الذكر" باحثة عن نقطة وسط تعيد لفظ امرأة واستبداله ب"إنسي". قد لا نتفق مع إلهام منصور في هذا الطرح ، لكننا جميعا ولا شك، نتفق بأن هذا الطرح هو نتيجة هذا الصراع الداخلي الواضح والمعلن أحيانا الغامض والمكبوت أحيانا أخرى في السرد النسائي جراء الإسقاطات الدونية لعبارة "أنثى".
ومن أجل إنجاح مشروع التحول إلى "رجلة" أهملت الساردة في رواية "حين كنت رجلا" –أولا- اللعبة التي صنعتها من القماش الملون والقطن لتكون ابنتها ... تلميذتها...أختها، وخاضت –ثانيا- في اللعب مع الصبيان: تتسلق الأشجار، وتركض مع جهد خارق من أجل التفوق على الذكور مع مواجهة محاولات الصبيان لإقصائها لأنها مختلفة، و-ثالثا- الإثبات للأهل ولنفسها بأن الاختلاف في الجسد لا ينتج اختلافا في الذكاء، حيث اختارت التفوق في الرياضيات "وأصبح همي أن أتفوق في الدراسة كما يفعل أخي البكر الذي لم يحتل يوما إلا الموقع الأول (...) بدأت باكرا أميل إلى الرياضيات التي تشكل الحيز الذي ينجح فيه الصبي أكثر من البنت. هل كنت أحب الرياضيات بسبب ميل طبيعي أم كنت أحبها تحديا؟ لا أدري، لكني أصبحت لاحقا مميزة فيها إلى درجة أن أحد الأساتذة، بعد أن أنهيت صف البكالوريا، كان يقول : "لقد مر عندي تلميذان مميزان هبى وأحد الشبان في مدرسة الصبيان" كان يدرس فيها. مرة أخرى حين علم مني أنني أدرس علم النفس في الجامعة قال لي بكل جدية : "هبى لقد أخطأت الاختيار، كان عليك أن تتخصصي في الرياضيات" لم يكن يعلم لماذا اخترت علم النفس" .
في هذا المقطع السردي يتجلى الصراع الداخلي للأنثى مع كينونتها ووجودها، (ومن أهم سمات هذه الكينونة وهذا الوجود من دون شك هو التحصيل العلمي) حيث أدى إلى ضبابية في الرؤى حول الاختيارات الممكن انتقاؤها من أجل إثبات الذات، فالساردة لا تعلم هل حبها للرياضيات كان ميلا طبيعيا أم كان بدافع التحدي...تحدي الآخر الأسرة وخاصة الذكور منهم. ويتعزز هذا الاختيار أكثر، من خلال التفوق في مادة الرياضيات، وذلك بشهادة الأستاذ. لكن هذا "التفوق" الذي يتمظهر كمفتاح لهذا التخبط الداخلي لا يجيب عن السؤال الذي طرحته الساردة في المقطع الآنف الذكر، أي هل اختيار الرياضيات كان عن حب وبسبب ميل طبيعي أم كان تعبيرا عن التحدي؟
وهكذا تضاءلت القيمة السردية لتيمة "التفوق" باعتبارها كانت ستكون نواة سردية، لبناء مشروع سردي لصراع الذات مع الآخر، من خلال البحث على نقط قوة هذا الأخير، من أجل إخضاعها للتجريب. تكسرت إذن هذه التيمة أمام تحد آخر وهو التوجه نحو دراسة علم النفس بالجامعة بعد الحصول على البكالوريا بتفوق. لينفتح بالتالي السرد على واجهة أخرى وهي القارئ المتلقي، من خلال قول الساردة عندما انتقد الأستاذ هذا الاختيار بدل الرياضيات: "لم يكن يعلم لماذا اخترت علم النفس" تاركة بذلك للقارئ إمكانية المشاركة في بناء السرد، وذلك بالربط بين الصراع الداخلي للأنثى كمعاناة وجود وكينونة وبين دراسة علم النفس.
يؤشر الأستاذ (الذي لم يكن يعلم لماذا اختارت الساردة علم النفس) على الرجل / الذكر / الآخر وبالتالي، كثر الذين هم من جنس الأستاذ لا يعلمون العالم الداخلي / الخفي الذي يشكل بؤرة صراع وجودي عند المرأة. وإذا لم يتم كشف وفهم هذا العالم الداخلي المتصارع، فإنه لا يمكن فهم اختيارات الأنثى، التي قد تلجأ إلى أساليب ملتوية لتحقيق ذاتها، وهو ما عبر عنه محمد عبد الله الغدامي ب"القناع" و"اللعبة".
ففي الملفوظ السردي "لم يكن يعلم" هناك إحالة على سؤال خفي "لم يكن يعلم ماذا؟" وهذا ال"لماذا؟" هو الذي أرادت الساردة فهمه معرفيا وعلميا من خلال دراسة علم النفس الذي يشرح النفس الإنسانية بصفة عامة.
ولكنها لم تكشف للأستاذ سبب هذا التحول من الرياضيات إلى علم النفس...لم تكشف لماذا؟ وذلك كي تتمكن من حماية مشروعها : فهم النفس البشرية. ولأنها "وجدت أنها تجيب على عدد كبير من الأسئلة" .
إنه القناع الذي تمارسه الأنثى اتقاء ردود فعل الفحولة والذكورة، تماما كما فعلت نازك الملائكة عندما أرادت حماية مشروعها وهو تحطيم رمز الفحولة عمود الشعر "هذا قناع ثقافي وقائي تستعمله المرأة لكي تعبر ذلك الطريق الطويل الشائك وسط إمبراطورية الفحولة" ، "وهذه لعبة –لا شك- أن المرأة المثقفة لجأت إليها دائما، لتحتمي بها وهذا ما تكشف عنه إحدى رسائل مي زيادة إلى باحثة البادية حيث نقرأ قولها : (أسيادنا الرجال...أقول "أسيادنا" مراعاة بل تحفظا من أن ينقل حديثا إليهم فيظنوا أن النساء يتآمرون عليهم ... فكلمة "أسيادنا" تخمد نار غضبهم.. إني رأيتهم يطربون لتصريحاتنا بأنهم ظلمة مستبدون" .
لقد سعت الساردة إلى تحطيم "تمثال" الأنثى الذي صنعه المجتمع وأسبغ عليه مقاييس الجمال ورموزه، وأهمها "الشعر"، رمز الأنوثة :"كان شعري طويلا جدا ومحط أنظار وإعجاب كل من يعرفني جلست على الكرسي عند الحلاق الذي كان يتحضر ليقوم بعمل فني مميز، بعد تردد قصير طلبت منه أن يقص شعري، تجمد للحظة ثم قال :"تمزحين طبعا، على كل حال أنا لا أجرؤ على قص شعر كشعرك هذا".
- أنا لا أمزح، إني جادة جدا، إن لم تفعل فسأذهب إلى حلاق آخر" قلت :"ذلك وكدت أنفجر بالبكاء، لكني تمالكت أعصابي وأصررت على طلبي.
- هل أقصره قليلا؟ هل أقص أطرافه؟
- لا تقصه قصيرا جدا ما عدت أريده.
حاول الحلاق عبثا إقناعي بالعدول عن قراري لكني تمسكت به، وحتى الآن لا أدري لماذا صببت غضبي تلك الليلة على شعري.
أحسست في حينه أن شعري هو رمز أنوثتي وكنت أود إلغاءها، لماذا؟ أ لهذه الدرجة أكره ذاتي؟ كل ما أذكره هو أني كنت كتلة غضب، وكدت انفجر إنه كان علي القيام بشيء ما غير عادي، بشيء يحدث صدمة عند الجميع، كنت بالأحرى أريد أن أصدم نفسي أن أعاقبها على تخاذلها، على ضعفها، على ما لست أعرف ماذا بالتحديد. كنت في قمة الغضب، لا بل الجنون" .
تتنازع هذا المقطع السردي انفعالات نفسية تؤثر على التشكل اللغوي للحكي : فالشعر الطويل يقابله أنظار وإعجاب الآخرين، وهو ما يكشف حالة صراع ذاتي/داخلي مع آخر خارجي ترفضه الساردة وترفض بالتالي الخضوع للصورة المثالية للأنثى (أي ذات الشعر الطويل). ومن ناحية أخرى يقابل الإصرار على طلب قص الشعر بالرغبة في الانفجار بالبكاء. لأن الساردة تدرك في وعيها أن وأد هذا الجزء من الأنوثة يتم بسبب ضغوط خارجية ترغمها على الثورة ضد ذاتها التي ترى أنها تمثال، يعلق عليه المجتمع مقاييسه الجمالية دون الانتباه إلى العمق الداخلي للأنثى، وهو ما أشارت إليه الساردة في قولها: "لماذا التركيز على جمالي وإهمال النواحي الأخرى عندي كأنها ثانوية بينما بالنسبة إلى أخي الأكبر كان التركيز على شطارته في المدرسة، والآن في الجامعة حيث يدرس الحقوق وحيث هو الأول دائما وبامتياز. لماذا الافتخار بجمالي أنا؟ أخي أيضا شاب وسيم لماذا لا يركز على هذه الناحية فيه؟ لماذا أشيأ وهو يؤنسن؟ لماذا أختصر أنا بواجهتي وهو يقيم بقدراته (...) لعن الله تلك الساعة التي ولدت فيها أنثى" .
إن إلغاء الذات الأنثى من خلال إلغاء الشعر الطويل، لا يحدث إشباعا نفسيا عند الساردة، ولا يحقق لها هدفها المنشود، وهو الإحساس بالحرية في اتخاذ القرارات وفي أن تغير بذاتها / مظهرها، ما يحلو لها هي، لا يما يحلو للمجتمع أن يراها عليه، ذلك أن أسئلة من قبيل، لماذا؟ أ لهذه الدرجة كنت أرفض ذاتي؟ أ لهذه الدرجة أكره ذاتي؟ بالإضافة إلى التبريرات غير المقنعة : كان علي القيام بشيء ما غير عادي / يحدث صدمة عند الجميع/ كنت بالأحرى أريد أن أصدم نفسي / أن أعاقبها على تخاذلها على ضعفها، على ما لست أدري بالتحديد، يكشف معاني التمزق والتخبط والرغبة في معاقبة الذات المتخاذلة الضعيفة، وكذا انشطار الذات أمام ما تطرحه كلمة "أنثى" من معاني ودلالات. ونجد هذا التمزق الذاتي وكذا والانشطار بين الأنا والآخر عند عدد كبير من الكاتبات اللائي رصدن حكايات النساء وآليات تدمير رمز الأنوثة وهو الشعر الطويل. فالكاتبة الجزائرية فضيلة الفاروق في روايتها "مزاج مراهقة" ترصد هذا الصراع الداخلي للأنثى مع العالم الخارجي فتلجأ إلى ذاتها لتدمرها ولتصدمها إن شئنا استعمال تعبير إلهام منصور. تقول لويزا بطلة "مزاج مراهقة" : "كان بودي أن أمزق الجلباب أيضا وأرميه في وجهه ولكنني تمالكت نفسي، وعدت إلى البيت مكشوفة الرأس، وبمجرد وصولي، أخذت مقصا، وجلست أمام المرآة، وقصصت شعري أقصر ما يمكن (.......) قالت لي زيتونة وهي تضحك : أظنك أصبت بالجنون.
فقلت لها والغيظ يلف حبلا حول عنقي:
سأكون مجنونة إذا تقبلت جسد الأنثى الغبي الذي يكبلني" .
ما بين لبنان والجزائر مسافات بآلاف الأميال، لكن السرد يكشف هشاشة هذه المسافات في مقابل حجم معاناة المرأة مع أنوثتها، حيث تُظهر اللغة الجماعية للكاتبات العربيات البعد الدلالي لواقع الأنثى في عالمنا العربي. "ما أتعس أن يكون الفرد امرأة عندنا! فكل طموحاته تتوقف عند عتبة تاء التأنيث..." .
لقد لاحظنا من خلال ما سبق تحليله وتقديمه من نماذج سردية، ارتباط ثورة المرأة ضد أنوثتها بعبارة "الجنون" سواء في رواية إلهام منصور أم رواية فضيلة الفاروق وغيرها وهو لا شك مؤشر خطير على هذا الصراع بين قبول المرأة لأنوثتها بمقاييس المجتمع المنحصرة في الشكل والإطار.
إن الغموض والوضوح في السرد النسائي من خلال عبارة "أنثى" لا يتمظهران في كلمة أو في جملة، ولا في بناء الأسلوب وتداعياته الاستعارية والتشبيهية والبلاغية. بل يتمظهران من خلال الأنساق والعلائق الاجتماعية وانتظامها داخل البنيات الذهنية.
فغموض هذه الأنساق والعلائق يولد غموضا على مستوى تشخيصها إبداعا. ويظل الوضوح استثناء إلى حين.

1- Le structuralisme – plusieurs écrivains – collection Médiations n° 159, Paris,
Dénoé – 1977
- 2-عبد الله محمد الغدامي: المرأة واللغة – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء، الطبعة الأولى – 1996- ص 111.
-3- المرجع السابق، ص 112، وانظر أيضا ص 40 من رواية سميرة المانع: الثنائية اللندنية حيث الإشارة إلى أن كلام خير الدين هو عبارة عن مخطوطة موجودة في مكتبة الأوقاف في بغداد ألفها سنة 1898م.
الميداني : مجمع الأمثال. ت: محمد محيي الدين عبد الحميد – دار القلم – بيروت، د.ت 1/ص 67.
- 4-عبد الله محمد الغدامي : ثقافة الوهم – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء، ط 1، 1998.
- 5عبد الله محمد الغدامي : ثقافة الوهم – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء، ط 1، 1998.
6 – إلهام منصور: حين كنت رجلا – رياض الريس- بيروت، ط.7، 2002- ص 12.
7 – المرجع نفسه، ص 12-13.
8 – سورة النحل (16) الآية 58 و 59.
9 – إلهام منصور: حين كنت رجلا، مرجع مذكور، ص 16.
10 – حميد لحمداني : كتابة المرأة – الدار العالمية للكتاب- الدار البيضاء – الطبعة 1، 1993، ص 41.
11 – المرجع السابق، ص 41.
12 – "حين كنت رجلا" مرجع مذكور، ص 19.
13 – نصر حامد أبو زيد: دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة – المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1999-ص 30 و ص 37.
14 – المرجع نفسه ص 37.
15 – المرجع نفسه ص : 37
16 – إلهام منصور : حين كنت رجلا، ص 16.
17 – عبد الله محمد الغذامي : أتُيث القصيدة والقارئ المختلف / المركز الثقافي العربي الدار البيضاء/ الطبعة الأولى / 1999/ص 12.
18 – انظر بتفصيل الملحق برواية حين كنت رجلا.
19 – حين كنت رجلا : ص 17.
20 – محمد عبد الله الغدامي : تأنيث القصيدة – مرجع مذكور ص 16.
21 – المرجع نفسه، ص 16.
22 – حين كنت رجلا، ص 49.
23 – حين كنت رجلا ص 53-54.
24 – حين كنت رجلا.
25 – فضيلة الفاروق : مزاج مراهقة- دار الفارابي، الطبعة الأولى، 1999 – بيروت.
26 – مزاج مراهقة : ص12.

ليست هناك تعليقات: