الجمعة، 14 أكتوبر 2011

مستويات تلقي السرد النسائي الخليجي بالمغرب

 
                                    مستويات تلقي السرد النسائي الخليجي بالمغرب
  
                        " الحواجز السوداء" ل"ليلى العثمان"-نموذجا-                       

     فاطمة كدو-  كلية الآداب القنيطرة


1- المرأة والكتابة :

      إن الحسم في مسألة" الكتابة النسائية" ، يتطلب النظر بشكل مدقق في مسار المرأة داخل المجتمع ، وأخص بالذكر طبعا مناطق محددة من هذا المسار ،أي تلك التي طالها التهميش والقهر والاستلاب ، أو بتعبير آخر: مناطق الظل التي ظلت المرأة منزوية فيها كرها لا طوعا .
       لسنا هنا بصدد عرض تاريخي مدقق ومفصل لمناطق الظل هذه ، فذلك مطروح في عدة مصادر ومراجع   وتكرارها المجاني هنا في هذا المقام سيكون من باب الإطناب والاستهلاك الرخيص. لقد ظلت المرأة لعقود طويلة تبحث عن دائرة الضوء التي تخرجها من مناطق الظل هذه ، وهذا البحث المضني توارثته الأجيال جيلا بعد جيل دون كلل أو ملل .فكان لابد وقد لامست المرأة هذه الدائرة ، أن تحكي عن قهر الانزواء ، وظلمة العتمة .فغدت بالتالي تحمل مشروعها الذي من خلاله تعيد لملمة الأشياء من أجل صياغتها في قالب حكائي تروي من خلاله عنف المتناقضات داخل مجتمعها ، من خلال إعادة علاقة إنسانية متكاملة تساهم في تطوير المجتمع وتحصين كرامة أفراده :ذكوره وإناثه .
     إن هدف هذا المشروع هو:
1-   إشراك الرجل في إعادة بناء حوار جاد حول مناطق الظل التي غيبت فيها المرأة ردحا من الزمن ، وهذا الحوار لايتحدد إلا بالإنصات للآخر.
2-   إشراك المرأة / الأخرى في تجارب لم تعشها ، وذلك من اجل كتابة جماعية هادفة لأرشيف المرأة بكل خصوصياته وحميميته.           

        إن مناطق الظل تلك ، لم يعشها الرجل نفسانيا وذهنيا وجسديا ،لأنه كان يكتفي ب"فعل" العزل والإقصاء والتهميش ، دون "فعل" التعايش الذاتي مع الآخر/المرأة في هذا الإقصاء .من هنا جاءت بعض الكتابات لعدد من المبدعات ، مختلفة عما يكتبه الرجال ، متباينة في موضوعها و مكوناتها السردية، وإحالاتها الدلالية عما يكتبه الرجال .فاستحقت بالتالي أن تدخل في خانة "الكتابة النسائية" لأنها لاتحكي عن أشياء تافهة أو مرتبطة بالسيرة العادية لامرأة عادية تعيش علاقات العشق والغرام والانشغال الذاتي برومانسية طوباوية ؛ بل تحكي الجرح ، وتحكي الإقصاء و التهميش " إن الرجال و النساء يكتبون بشكل مختلف لأنهم مخلوقات تحمل تجارب تاريخية ونفسية وثقافية مختلفة ، مثلما يكتب الأستراليون و الإفريقيون بشكل مختلف حتى ولو كانوا يكتبون باللغة نفسها .وهذا لايعني طبعا أن جميع النساء يكتبن بالطريقة نفسها ، ولكن هناك خصائص عامة يحتمل وجودها في كتابات النساء أكثر من كتابات الرجال، وميزات أخرى تميز كتابات الرجال أكثر من كتابات النساء."-1- 
      
       إن الحديث عن "فعل" الكتابة عند المرأة ، يستدعي بشكل رسمي ،مفاهيم مثل : " الهوية والخصوصية" ، الأمر الذي يطرح إشكالية ، " إذ كيف يمكن الحديث عن الهوية دون السقوط في نزعة هيمنيةخصوصا أن المرأة لها أساليبها الخاصة  في التعبير عن هويتها ،سواء من خلال الصمت أو الكلام أو الكتابة داخل سياق رمزي يسيطر فيه الرجل؟"-2-

لم تستطع المرأة/الكاتبة ، بالرغم من ثقافتها وعلمها ووعيها و انفتاحها على آفاق فكرية واعدة ، أن تنظر إلى ذاتها بما يكفي من التصالح و القبول"l’acceptation de soi  " حسب تعبيرJung -3-. لأن التصالح مع الذات والقبول بها على أساس أنها مختلفة عن الذات الأخرى /الرجل ، وليس أقل منها أو أضعف ، كان سيمكن الكاتبة من التحصن ضد ا لشراك التي يمكن أن تسقط فيها. ولعل أول هذه الشراك ، والأكثر حساسية من غيرها ، هو "النقد الأدبي".وهكذا" تم تهميش الكتابات النسائية غالبا بحجة أن مخيلة النساء ، وخبرتهن محدودتان .ويردد النقاد آراء بعضهم بأن الكاتبات العربيات قد فشلن في الخروج من قمقم البيت والأطفال والزواج والحب في كتاباتهن ، ونتيجة لذلك فقد فشلن في معالجة الاهتمامات الاجتماعية والسياسية لبلدانهن ، وهكذا فإن ذكرهن في مواضيع النقد الأدبي يتناسب مع الأهمية الضئيلة للمواضيع التي عالجنها .في ضوء هذا المنطق الذي ينسحب على معظم النقد المتوافر عن الكتابات النسائية ، فإن عبارة "أدب نسائي" مازالت تستخدم كعبارة مهينة أو على الأقل تنبئ بنقص ما."-4-. من هذا المنطلق سقطت أغلب الكاتبات في شراك نقد أدبي عمم حكمه على الكتابة النسائية بأنها كتابة تفتقد لمقومات الإبداع ، فجاءت ردود فعلهن سلبية اتجاه إبداعاتهن رغم إيمانهن الأكيد بأن الرجل والمرأة يكتبان بشكل مختلف ، ومن زوايا مختلفة ومتباينة ، ورغم ثقتهن الكبيرة في أ ن الكتابة تختلف جودة وضعفا من امرأة إلى أخرى . وبالتالي أصبحت الكاتبات تعشن حالة من الازدواجية الفكرية والثقافية و الوجدانية ، ستنعكس بكل تأكيد على كتاباتهن ، إذ ستصبح " الرقابة الذاتية" على فعل الكتابة سيدة الموقف الإبداعي ، وستكثر عملية التشطيب على هذه الجملة أو تلك ،أو حذف هذه العبارة وإحلال أخرى مكانها أثناء كتابة المسودة ،لأن الكاتبة محاصرة أولا بهاجس الآخر/القارئ /الرجل، وثانيا محاصرة بانتمائها لتاء التأنيث .مع التذكير مرة أخرى بأن ليس كل ما تكتبه المرأة يدخل في خانة الكتابة النسائية  كما سنوضح ذلك لاحقا بتفصيل.
ويمكن أن نوضح أكثر هذه الازدواجية التي أصبحت تعاني منها المرأة المبدعة بشكل مجاني وغير مبرر من خلال الشاهد التالي : " ويفسر هذا سبب مقاومة معظم الكاتبات العربيات لتصنيف أدبهن على أنه -أدب نسائي- .وقد شرحت الكاتبة الدكتورة لطيفة الزيات ، على سبيل المثال سبب رفضها لمصطلح الأدب النسائي ، حيث قالت (لأن المصطلح يدل في العربية والآداب الأخرى على نقص في الإبداع ونقص من الاهتمامات النسائية المحدودة ).لكنها تؤكد أن هذا المصطلح ( لايستند بأي شكل من الأشكال على تمحيص وتفحص للكتابات النسائية ، بل هو حكم مسبق يعتمد على جنس الكتابة للنص المكتوب).وقد وصفت موقفها ككاتبة بصراحة وأضافت (لقد رفضت دائما التمييز بين الكتابات النسائية وكتابات الرجال رغم شعوري بأن النساء و الرجال يكتبون بشكل مختلف ، والذي أملى علي هذا الموقف هو خوفي من أن مثل هذا المصطلح سيلعب دورا في إبقاء الأعمال النسائية في الدرجة الثانية في الأدب تماما كما تم الإبقاء على المرأة في الدرجة الثانية في المجتمع والحياة .ولكن الآن ،وبعد أن أصبح من الممكن و المحتمل تحقيق المساواة بين النساء والرجال، يمكن لنا أن نعترف بالطرق المختلفة التي كتب بها الرجال والنساء دائما،دون أن يعني هذا بأي شكل من الأشكال بأن أحدهما متفوق على الآخر)"-5-.
ينقسم الشاهد إلى ثلاثة مقاطع مهمة من كلام الكاتبة لطيفة الزيات ( وللتذكير فهذا الاختيار هو واحد من بين مئات الشواهد ، التي تحمل نفس المعاني و الدلالات ، نقدمه نظرا لحمولته الدلالية المكثفة).

أولا : أسباب رفض مصطلح "الأدب النسائي":


لاتقدم لطيفة الزيات سببا مقنعا لهذا الرفض . وبدل ذلك تفضل الانسياق وراء أحكام مسبقة و جاهزة صادرة عن مؤسسات ثقافي وأدبية اتجاه إبداع المرأة .بتعبير آخر ، إن لطيفة الزيات بدل الدفاع عن الحق في الاختلاف فهي تساهم في تكريس وضع قائم وترسيخه، أي مادامت هذه المؤسسات تنظر إلى" الأدب النسائي "أو "الكتابة النسائية" أو" السرد النسائي" نظرة تنقيص معتبرة إياه من الدرجة الثانية ، فأحسن ردعلى هذه المؤسسات هو رفض هذا المصطلح و منع تداوله . وذلك بدل التصدي لهذه المؤسسات بإنتاجات إبداعية تحمل مشروعا وصوتا مضاعفا للمجتمع وأفراده ، تدافع عن الحق في أن يكون لهذه الكتابة  خصوصيتها وهويتها .

ثانيا ": أرفض مصطلح أدب نسائي .....ومع ذلك فالنساء و الرجال يكتبون بشكل مختلف.

إن هذه الازدواجية في خطاب لطيفة الزيات تكرس ما سبق أن أشرت إليه بخصوص التصالح مع الذات والقبول بها والتعيش معها، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمفهوم"الدونية" الذي كرسته المجتمعات الذكوريةفي أذهان الفتاة تربية وتثقيفا ،فانعكس ذلك على ذاتها وعلى تعاملها مع الآخرين .وهذه الازدواجية تتمظهر وهي متسترة خلف مفهوم آخر هو" الخوف" من أن ينفلت مفهوم "الدونية" من مجاله الاجتماعي إلى مجال آخر هو الإبداع :" الذي أملى علي هذا الموقف هو خوفي من أن مثل هذا المصطلح سيلعب دورا في إبقاء الأعمال النسائية في الدرجة الثانية في الأدب تماما كما تم الإبقاء على المرأة في الدرجة الثانية في المجتمع والحياة."وبهذا تكون لطيفة الزيات قد تناست أن الأعمال الجيدة تفرض نفسها، من خلال التأثير في القارئ من خلال جعله أكثر إنصاتا لنبضات النص ، خصوصا إذا كانت كاتبة هذه الأعمال الجيدة هي تلك المرأة التي"لاتكتب على الورق فقط ،إنها تتألق في الكتابة على جسدها على اعتبار أن التمويه ، ومختلف أشكال إبراز ذاتها بمثابة نقش على الجسد ، فضلا عن أن المرأة حين تكتب فإنها تستدعي المكبوت المتراكم عبر الزمن لتعلنه –أو تلعنه- في حوارها أو صراعها مع الرجل ، لاسيما أن رغبة هذا الأخير في الخلود تعبر عن نفسها من خلال إقصاء المرأة وتهميشها "-6-.

ثالثا: المساواة تتحقق في كل شيء إلا....في الإبداع :      
          

إن لطيفة الزيات تنزعج كثيرا من مفهوم"الاختلاف" وتموضعه بين مفهومين.بحيث يصبح في حالة مد وجزر بينهما ن وهما مفهوم ط المساواة" و مفهوم"التفوق" . و بالتالي تضعنا أمام مفهومين آخرين للناقد لسويان غولدمانLucien Goldmannوهما : " الوعي القائم" و" الوعي الممكن" . دعونا نستوضح الأمر أكثر من خلال إعادة التذكير من جديد بهذا المقطع :"ولكن الآن ، وبعد أن أصبح من الممكن والمحتمل تحقيق المساواة بين النساء والرجال ، يمكن لنا أن نعترف بالطرق المختلفة التي كتب بها الرجال والنساء دائما ، دون أن يعني هذا بأي شكل من الأشكال بأن أحدهما متفوق على الآخر".

إن لطيفة الزيات تقوم بعملية تمويهية مجانية ، حين تربط مسألة الاعتراف بأن الرجل والمرأة يكتبان بشكل مختلف بالجو العام الذي بدأ يسود المجتمعات العربية ( والمجتمع المصري خاصة)نأي أجواء الانفتاح وإمكانية تحقق المساواة بين الرجال والنساء . متناسية أن مسألة" المساواة" هي نسبية في مجتمعاتنا العربية ن وستظل كذلك ردحا من الزمن لا أحد يعلم امتداداته .
إن الاختلاف في أساليب الكتابة بين الرجل والمرأة هو أمر حاصل فعلا ن تماما مثلما هو حاصل بين  أسلوب هذا الكاتب و ذاك وبين هذه الكاتبة وتلك .بل إن الاختلاف عن الرجل في الكتابة هو أمر مطلوب لأننا في حاجة إلى زوايا أخرى ،وإلى رؤى أخرى لعالمنا ن كي نفهمه جيدا .و هذا الاختلاف حاصل فعلا سواء كانت مجتمعاتنا تنعم بالمساواة أم لا. ذلك أن المساواة في الحقوق والواجبات لايمكنهابأي حال من الأحوال أن تمتد إلى الإبداع ومجالاته، لأن" المساواة" تقنن سلوكيات الإنسان وتحدد له واجباته إزاء ذاته وإزاء الآخرين. أما الإبداع خصوصا الكتابة ،فهي تتأسس أولا وأخيرا على حرية الفرد في الإنتاج ، و في ركوب عوالم الدلالات والرموز .

وهكذا يشكل الثالوث : المساواة/الاختلاف/ التفوق ، ذلك الإطار الذي سجنت فيه الكاتبات أنفسهن و ذواتهن ، فجاءت كتاباتهن لاتمت بصلة إلى الكتابة النسائية ،بل هي مونولوجات لا أكثر ولا أقل .

إن الإقرار و الاعتراف بالطرق المختلفة التي يكتب بها الرجال والنساء ن ورفض في مقابل ذلك الاعتراف بإمكانية تفوق الرجل على المرأة أو تفوق المرأة على الرجل في الإبداع وفي ابتكار أساليب متنوعة للحكي و السرد و الحوار والتواصل ن ينفي عن الإنسان المبدع بشكل عام ذكرا كان أو أنثى الحق في التنافس و الابتكار.
إن الاختلاف بين الرجل والمرأة حاصل جسمانيا وعقليا وعاطفيا وتربية  وثقافة وعلما ، وبالتالي فإن ما يصدر عنهما من إبداعات سيتلون بكل تأكيد بألوان هذا الاختلاف ، وتبقى مسألة تفوق هذا عن تلك أو هذه عن ذاك ، مرتبطة بالتراكم المعرفي والعاطفي لكل من الرجل والمرأة ، ومدى قدرة كل منهما على حسن تدبير هذا الرصيد من التراكم . وحسن التدبير هذا ن هو الذي يمنح صفة" التفوق".أضف إلى ذلك أن ط الأدب النسائي"أو"السرد النسائي"أو" الكتابة النسائية" نأو بتعبير أكثر دقة وأكثر إنصافا "خطاب المرأة" (في الرواية والقصة والفكر والنقد.....) لايعني أن المرأة هي التي تكتبهن بل المقصود أن محوره وموضوعه العام هو المرأة .

كان لابد من هذا التقديم لنستوضح أكثر عمق العمل الإبداعي " الحواجز السوداء" للكاتبة الكويتية ليلى العثمان ، نظرا لخصوصية هذا الإبداع الرمزية والدلالية .إن مسألة تلقي" السرد النسائي الخليجي" يختلف من متلق إلى آخر ، داخل نفس الرقعة الجغرافية ، وتختلف بكل تأكيد من منطقة جغرافية إلى أخرى ،أي من بلد إلى آخر، حسب التراكم المعرفي والفكري لكل متلق .بل إن ضمير" أنا" الذي يقترب من النص الإبداعي هو نفسه متعدد من خلال قراءات متعددة ونصوص أخرى .-9-.وبالتالي فإن تلقي النص الإبداعي يتم من خلال عدة مستويات تتحكم فيها القراءة باعتبارها فعلا تلفظيا ، أي قراءة خاضعة للكتابة : فأنا قارئ أكتب قراءاتي فيشكل عمل تحليلي أو نقدي مادته الأساسية  "الكلمات"أو "الألفاظ" التي هي مفتاح الدخول إلى العوالم الخفية والظاهرة للنص الإبداعي . وكما يؤكد ذلك بارثBarthes" ليس هناك دليل آخر على القراءة (أو فعل القراءة) إلا وظيفتها أو اشتغالها .إن فعل القراءة هو عمل لغوي :أقرأ معناها إيجاد معان يجب تسميتها .لكن هذه المعاني وقد أخذت مسمياتها ستؤشر على مسميات أخرى  وهكذا ... وبالتالي ستتجمع المسميات وستتفاعل فيما بينها لتعطي مسميات أخرى .....-10-.
لقد أفضت بنا قراءاتنا للنص الإبداعي لليلى العثمان إلى الوقوف على البنية العامة لهذا السرد تنقسم إلى قسمين :
الأول يشمل نصا محملا بدلالات ورموز تم الاشتغال عليها بدقة متناهية من أجل إعادة رسم خريطة الوطن من جديد إبان و بعد غزو الكويت .و يضم هذا القسم النصوص التالية : 1. للعباءة وجه آخر2.البطاقة 3. وعاد البحر4. وجه خلف حاجز الذاكرة 5.وجه الذئب 6.الجراد ينهش المدنية 7..غريبان في عمان 8. ما قاله أبو صالح 9.مازال الحداد قائما 10. الطاعون يفاجئ المدينة.

أما القسم الثاني فيضم نصوصا واقعي تحت عنوان " حواجز مختلفة الوجوه" ن وعددها تسعة حواجز/حكايات ." هذه الحكايات فيض من فيض لما حدث في تلك الفترة السوداء ، أردت من خلالها أن أسجل تلك الفترة نفسها المعتمة وأن أكون في ذات الوقت "واقعية جدا" وأقدم هذه الحواجز ن بوجوهها المختلفة " -11-.
2- النص الأدبي ونظرية التلقي :         

إن هذا التحديد الأولي للبنية التي يتأسس عليها النص الإبداعي "الحواجز السوداء" ليس تحديدا اعتباطيا ،بل إنه يدخل في صميم توجهات " نظرية التلقي" خصوصا عند إيزر، الذي اهتم بمسألة : كيف وفي أي ظروف يقدم النص معنى للنص؟

إن ما دفع إيزر إلى البحث في هذه المسألة هو أن " العمل الأدبي ، ليس نصا بالمعنى الصحيح ولا هوذاتيةالقارئ بالتحديد ، بل هو توحيد أو انصهار لهما . في هذا الصدد يرسم إيزر ثلاثة مجالات للبحث ؛يشمل المجال الأول النص في قدرته على السماح بإنتاج المعنى ومجالاته. يعتبر إيزر النص – وهو نفس رأي إنغاردن- بمثابة بنية لمظاهر خطاطية يجب على القارئ تحيينها أو تحقيقها .ثانيا ، يبحث إيزرفي عمليةمعالجةالنص خلال القراءة . والمهم هنا هو تشكيل الصور الذهنية عندما نحاول بناء موضوع منسجم ومتناسق .وأخيرا يتجه إيزر إلى بنية الأدب التواصلية لكي يدرس الظروف التي تخلق التفاعل بين النص والقارئ ، وتتحكم فيه . وبأخذه بعين الاعتبار هذه المجالات فإن إيزر يسعى ليس فقط إلى توضيح كيف ينتج المعنى، بل أيضا إلى توضيح تأثيرات الأدب على القارئ-12-.
إن المجالات الآنفة الذكر التي اهتم بها إيزر، تدفعنا إلى طرح بعض الأسئلة نجملها في ثلاثة محاور: 
1-                          ما هي حدود النص/السرد ، الخليجي النسائي في إنتاج المعنى ومعالجته ، خصوصا إذا آخذنا بعين الاعتبار كثافة وغنى المجال الثقافي والاجتماعي والفكري الذي ينهل منه السرد ومن خلاله يتشكل ويتأسس؟
2-                          ما هو السبيل إلى استحضار الصور الذهنية ( التي حددها إيزر)لعوالم السرد أثناء القراءة، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار المسافة الجغرافية الفاصلة بين الكويت موطن السرد وولادته وبين المغرب الذي يتلقى هذا الإنتاج الإبداعي بكل حمولته الفكرية والثقافية والاجتماعية ؟
3-                          كيف تتم عملية استحضار الظروف التي تخلق التفاعل بين سرد خليجي نسائي وقارئ ينتمي إلى أقصى نقطة جغرافية من وطننا العربي ؟           


إن طرح هذه الأسئلة إنما هو بغرض إعادة الاشتغال على ذات القارئ "الأنا " وعلاقتها بالمقروء ، من اجل الكشف عن طبيعة تأثيرات الأدب على القارئ.
تستهل ليلى العثمان مجموعتها القصصية "الحواجز السوداء" بنص سردي تحت عنوان " للعباءة مجه آخر" ن وهذا الوجه الآخر للعباءة يؤشر على كثافة دلالات العباءة ولونها الأسود ، كما تؤشر على فعل تصاعدي لهذه الدلالات.

فالعباءة تستر جسد المرأة في رأي الأب " كبرت ويجب أن ترتديها " -13- ؛ و بالتالي فالعباءة ترمز في نظر الساردة إلى سلطة أبوية /ذكورية تكرهها على التدثر داخلها " ليلتها بكيت، ظللت أرمقها مكومة فوق الأريكة .بجانب حقيبتي المدرسية تنازعني الرغبة في أن أمزقها بأسناني ، أو اقرضها كما يقرض الفأر الليلي بابنا الخشبي .لكن وجه أبي يقفز باللون الأسود ،فألجم نفسي ، أتوسد وأنام ، وأحلم أنني تحولت خفاشا أسود .في الصباح ارتديتها وكأنها كفن يعلن موتي.تعثرت فيها ألف مرة قبل أن أصل باب المدرسة.   تفاجأت بي زميلاتي وهزئن من منظري الجديد"-14- .

تتكاثف دلالات "العباءة"مع توالي السرد لتنتقل من رمز للسلطة إلى رمز للحزن ، ومشاركة الآخرين في أحزانهم بعد احتلال العراق للكويت . ومن خلال هذه الدلالة الجديدة يتمدد الزمن إلى عشرين سنة ، هي المدة التي قاطعت الساردة خلالها "العباءة" " أكثر من عشرين سنة قاطعتها ...تحررت من أسرها ، واليوم أبحث عنها بكراهية تتضاعف ..."-15- .وبالتالي يتبادر السؤال التالي إلى أذهاننا : لماذا احتفظت الساردة بهذه العباءة طوال عشرين سنة؟ألم يكن حريا بها تمزيق هذه العباءة ونسيانها بعد كل هذه السنين ؟خصوصا أنها ترمز إلى سلطة غيرت مجرى حياتها كأنثى عليها حراسة"أثدائها عن أعين الرجال"-16- .
كان الجواب سيكون : بلى، لكننا أمام من العيار الثقيل ، أي ساردة تريد أن تثبت على الدوام عبر الكلمات والحروف ، أنها قوية ومختلفة عن باقي الإناث ؛ واحتفاظها بالعباءة هو احتفاظ بدليل مادي على هذه القوة وهذا الاختلاف والتفرد ،وكان لسان حالها يقول : نعم لبست العباءة قهرا وكرها ن ولكني نزعتها رغم المعاناة " بين الأشياء وجدتها مكرمشة تفوح منها رائحة طفولتي وصباي الجميل ، المفروم تحت سطوة العصا"-17- .

ترمز العباءة أيضا إلى الانتماء للوطن وإلى أعرافه و تقاليده وطرق لباسه ؛ وهكذا تحضر العباءة في النص عندما يغيب الوطن قهرا بسبب الاحتلال الذي جعله "محافظة" ، مجرد فرع تابع لأصل هو العراق .فتقليص المساحة الجغرافية للوطن إلى" محافظة" ، ستواجهه الساردة من خلال استحضار "العباءة" بشكلها الفضفاض و الواسع،ليتحول الجسد الأنثوي إلى وطن تدثره العباءة وتحميه. وارتداء العباءة بعد عشرين سنة من نزعها ،هو أيضا محاولة في لاوعي الساردة من أجل إعادة عقارب الزمن إلى الخلف من أجل الهروب من الواقع الراهن المر :الاحتلال لكن هذه العودة تفشل أمام هول ماتراه العين من مشاهد " ماأن خرجت إلى الشارع العام حتى صدمني المنظر .سيارات متصادمة ، وأخرى تطير مجنونة لاتلتزم بإشارات المرور التي انحنى بعضها وسقط بعضها الآخر . هرج غريب . ووجه مدينتي شاحب كوجه أرملة وحيدة . كل شيء اسود .كل الوجوه ارتدت حواجز سوداء .أطلق الرجال لحاهم و ارتدت النساء بوشيات تلتصق بالأنوف المبللة كانفي بالدموع. عباءات توحد فيها الحزن " -18- .
وإذا كانت العباءة ترمز إلى سلطة التقاليد والعادات من خلال إرغام الأب لابنته على ارتدائها ، وكذا إلى الامتداد الزمني (بعد عشرين سنة) ، فإن الوطن حاضر بقوة من خلال العباءة ، التي تعددت ليتوحد من خلالها الحزن . بل ليتوحد من خلالها الإنسان الكويتي.هذه الوحدة تتمظهر من خلال نبذ الأنانية وإحلال الإيثار محلها ،حيث أصبح مقر الجمعية مقرا للتضامن" دغدغتني إيثارية الناس رغم حزني .كل يحتاج لأي شيء لكنه بيسر ومحبةيقدمهاللآخر،رائحة الحب شهية تبدد خوفي ، تزف تبدد خوفي ، تزف لي بشرى روح الأسرة الواحدة التي كانت مجرد كلمات جوفاء .الروح تتجسد ونحن في أيامنا الأولى من احتلالهم البغيض."-19- .

إن النص السردي " للعباءة وجه آخر" يشكل تقاطعا بين زمنين في وعي الساردة: زمن الطفولة وزمن الاحتلال . هذا الأخير الذي أصبح مؤشرا على عمر جديد : " أقضم حسرتي، أحمل عمري الجديد" -20-.وهو عمر لا يعش بل يحمل كرها .
إن الذات الساردة وهي تلملم حزن الوطن تعرض أوصافا للمحتل تعتمد على عنصر المعرضة بين الذات والآخر .وهذا الآخر المحتل لا يوصف من خلال أفعاله وسلوكياته فقط، بل أيضا من خلال أدق تفاصيل جسده " .....بوقاحة مد كفه ذات الأظافر الطويلة .. ..بغرور لايليق به ، فتح شدقين أصفرين "-21- إن أوصافا من هذا القبيل تجعل المتلقي لايلامس مطلقا بنية شخصية حقيقية من لحم ودم تتنفس عبر صفحات السرد . وهذا يجعلنا أمام ساردة تتقن عرض ثنائية الذات والآخر، فالذات/ الكويت رغم أنها مثقلة بالأحزان ، ورغم التشظي التي تعاني منه بفعل الاحتلال ، فإن لها القدرة على التوحد داخل هذا الحزن ن والقدرة على التشبث بالوطن ولو من خلال آخر ما يمكن أن يتبقى منه وهو" العباءة".أما الآخر/العراق ، باعتباره محتلا للوطن ن فهو يتمظهر من خلال جسد ميت ، أصفر . ودلالة اللون هنا تؤشر على الزوال والانتهاء ولو بعد حين .
 وتحضر عبارة "الظافر الصفراء " في السرد الثاني الذي يحمل عنوان" البطاقة"لتشدد من جديد على طبيعة المحتل ، الذي تنكر لدم العروبة . وتقدمه الساردة كسبح لا يستحق أن تسري في عروقه دماء عربية، وكأن الدم العربي الذي كان يسري في عروقه وشرايينه قد تنكر له .

إن النص السردي " البطاقة" يقدم لنا "الهوية الكويتية" وهي تحت الاحتلال ، تعيش حالة مد وجزر بين الأمل والفرح حسب منطق المحتل "ظل وجهي مستقيما نحو الأمام .صوته ينهق :
"-  أنتي شنو؟؟
أدرت له وجها باردا:
-ما رأيك؟ إنسان  أم حيوان؟
صرخ:
- ياالله عاد إحنا مما نتشاقى  وياك أنتي شنو؟
ركزت عيني بتحد في عينيه
-         كويتية.
-         انتفضت عروقه:
-         - شنو؟
         بكبرياء شديد :
        - أنا كويتية
صرخ"دائما هم يصرخون ويتناثر رذاذ صراخهم":
-         هسة بع أكو كويت والا كويتية؟
سحب بطاقتي المدنية ،دفعتها نحو وجهه:
-         شوف بطاقتي تقول هذا
قذف البطاقة فسقطت –لحسن الحظ- داخل السيارة :
-         ما علي من البطاقة ن جاوبيني   
-         ماذا تريدني أقول ؟
-         انخفض صراخه:
-          أنتي أصل ولا فرع
-          أنا شجرة
-         فاجأتني ضحكة استفزته :
-         يا بنت الحرام....
-         لاتشتم أهلي
-         لعنة الله عليك وعلى أهلك
   بداخلي:
-         عليك وعلى سلالتك و على رئيسك
-         هسة يعني شنو أنت شجرة
-         يعني أصلي وفرعي واحد
-         وشنو أصلك ؟
-         كويتية
-         ضرب على ظهر السيارة وقد فقد أعصابه :
-         ترجع تقول كويتية. أنت الحين عراقية
            بهدوء :
-         أنتم تقولون هذا ن وليس بالضرورة أن نقتنع
بسخرية:
-         لعد متى تقتنعون ؟
  أجبت بسخرية مماثلة :
- ليس هناك متى ن إلا إذا متنا وولدنا من جديد هناك .
      
  أمرني :
-         أشو هاتي البطاقة
.......................
-         ها بعد تكولين( تقولين) كويتية ؟
بغرور: - أي نعم ، وعروقي مشبعة بحروف الكاف والتاء.                              
 يستشيط:
-         أنت عراقية رغم أنفك "-22-.
  قبل تحليل أهم وحدات هذا الحوار ، لابأس من تذكير القارئ الذي لم تتح له الفرصة بعد لقراءة المجموعة القصصية " الحواجز السوداء" بأن هذه المجموعة هي نص سردي متكامل ومرتبط ببعضه البعض ، أي أنها تختلف عن باقي المجموعات السردية التي تكون فيها كل قصة منفصلة عن الأخرى ومستقلة عنها .وبالتالي فإن كل قصة من هذه المجموعة تستكمل بنيتها ودلالتها من خلال القصة الموالية لها . ونكون بذلك أمام مفاهيم مهمة اشتغل عليها إيزر بشكل مكثف أعطت نتائج داخل نظرية التلقي ن وهذه المفاهيم هي"البياض" (blank )و" شاغر" (vacancy) و" النفي"(négation)  و"وجهة النظر الجوالة"(wandering view point)، إن هذه المفاهيم في رأينا الخاص تكون مترابطة مع بعضها أثناء فعل القراءة ، لكن إيزر يفضل مثلا استعمال مفهوم "شاغر" بدل مفهوم "بياض" وله في ذلك طبعا مبررات ( غير مقنعة بالنسبة لنا) ، بل أكثر من ذلك يعتبر أن ل"البياض" أنوعا كثيرة: " تظل الرحلة التي رسمتها البياضات والفراغات قائمة على المحور التركيبي بحيث أنها تصف طريقا داخل النص .و من جهة أخرى ن يجد إيزر فوق المحور الاستبدالي نوعا مهما آخر من البياض يحدث ما يسميه إيزر بالنفي"-23-.
   
وبالرجوع إلى" الحواجز السوداء" ، فإننا نلاحظ بأن القصة الأولى التي تحمل عنوان
" للعباءة وجه آخر" والقصة الثانية التي تحمل عنوان" البطاقة "، لايمكن قراءتهما كقطعتين منفصلتين ن ومستقلتين على مستوى الدلالات والرموز . فالسرد في "للعباءة وجه آخر" ينتهي تاركا وراءه بياضات وأماكن شاغرة وحالات من النفي وكذا وجهات النظر الجوالة ن لايمكن فهمها أو تحديدها ، إلا من خلال القطعة السردية الموالية لها أي " البطاقة" . وبالتالي فإن مقولة " الأدب و التوصل" ن تجعل القارئ أمام مهمة صعبة وهي إعادة تركيب السياق العام للنص . والصعوبة آتية أساسا، حسب إيزر من كون القارئ لايمكنه" أن يختبر ماإذا كان فهمه للنص صحيحا أم لا . ثانيا ليس هناك سياق منظم للنص والقارئ من أجل إقرار القصد"-24-. وبنية التواصل الأدبي، في هذا الإطار تعتمد أساسا على الأخذ والعطاء بين النص والقارئ، فالنص يجب أن تتوفر فيه شروط إبداعية محددة لها القدرة على توجيه القارئ .فالطريقة التي من خلالها يضبط النص إيقاعه الداخلي ، هي التي تعطي للعمل الإبداعي بعده التواصلي .ذلك أن النص يضبط إيقاعه الداخلي من خلال "بنية البياضات" ، التي مهمتها هي ربط أجزاء النص المختلفة.

    وهذا بالضبط مانلاحظه بالنسبة للقصتين"للعباءة وجه آخر" و" البطاقة".فبمجرد الانتهاء من قراءة النص الأول ، يتوصل القارئ إلى أن هناك أشياء عديدة لم يتم إدراكها عل مستوى التخيل والدلالات والرموز ، ورغم المحاولات العديدة لملء هذه البياضات ، فإن النص لايمدك بأي خيط يمكن أن تنسج على منواله حلقات واصلة بين بنيات النص المتعددة.لكن بمجرد الدخول في قراءة القصة الثانية"البطاقة" ،فإن القارئ يجد نفسه أمام أجوبة بإمكانها ملء بياضات النص السابق. وبالتالي تتضاءل أهمية القطعة السردية السابقة " للعباءة وجه آخر" أمام ما تحمله القطعة السردية الموالية" البطاقة" من أبعاد دلالية ورمزية. وهكذا تصبح القطعة الواحدة مهيمنة ، في الوقت الذي تتضاءل أهمية القطعة الأخرى بصفة مؤقتة.فكلما أصبحت قطعة ما تيمة thème "للعباءة وجه آخر" مثلا ، فإنه يتم إزاحتها –مؤقتا- لتصبح في موقع هامشي ، حيث يعمد القارئ إلى التركيز على القطعة الجديدة أو الموالية " البطاقة" مثلا . ويكون القارئ بذلك قد تموضع في المكان الذي سيتمكن من خلاله من إضاقةعناصر جديدة إلى النص، تساهم في تعزيز بنيته التواصلية، وهذه العناصر الجديدة مكونة أساسا :
 1- من التراكم المعرفي للقارئ حول الموضوع الذي هوبصدد دراسته.
 2- من قدرته على "نفي" عناصر محددة قد استهلكت وأصبحت متقادمة ، وعاجزة عن تقديم معان جديدة ن المر الذي سيدفع القارئ إلى البحث عن معان جديدة إما مصاغة بشكل مقصود داخل النص ،أو غير مصاغة ولكن توجد آثارها داخل النص.       

وبالرجوع إلى "الحواجز السوداء" فإننا نجد بأن نص"البطاقة" يملأ بعضا من تلك البياضات التي سكت عنها نص"للعباءة وجه آخر" ، حيث عمل" الصراع اللغوي "-25- بين الجندي العراقي وبين الساردة على جعل القارئ يعطي قيمة معرفية لنص "البطاقة"، بعد أن كان قدأعطى نفس القيمة ل"للعباءة وجه آخر"باعتبار هذه الخيرة رمزا لهوية محددة ،لكن هذه "الرمزية" بعد أن استنفذت على مستوى السرد فإن" البطاقة" ، الوجه الآخر للهوية ن ستعطي معان أخرى لمفهوم"الانتماء" للوطن . حيث سيمدنا" الصراع اللغوي"السابق الذكر بآفاق معجمية أخرى تتمحور حول الكلمات الآتية : الأصل/الفرع/الشجرة/الموت/الولادة/العروق المشبعة بحروف الكاف والتاء/أنا كويتية/أنت عراقية رغم أنفك/العروبة/وجهي الجميل/بطاقتي/بطاقة أسرتي الغالية.........
  
     وإذا كانت المدرسة الألمانية التي ظهرت في البداية مع همبولد والتي أصبحت تحمل اسم علم النفس الشعبي "تقدم اللغة على أنها المظهر الذي تتجلى فيه النفسية الجماعية  ل (الروح الشعبية) -26-ن فمفردات كل شعب من الشعوب تعبر عن تصوره للعالم . وقد حلل (لازاروس) جيدا دور الوساطة الذي تقوم به اللغة في هذا المجال قائلا :" أن تجمع في الكلمة الواحدة مختلف الأحاسيس وتمثل مجموع الحالة النفسية بواسطة لحظة من لحظاتها المفضلة : ذاك هو دور اللغة"-27-.
فالكلمات الآنفة الذكر تمثل مجموع الحالة النفسية في لحظة تاريخية تميزت بمواجهة المحتل ومقاومته من خلال الأشياء الحميمة والبسيطة جدا للأشخاص.
وهكذا ، تتوحد هذه الكلمات داخل مسمى واحد هو: البطاقة" .فمن خلال الاسم وتاريخ الميلاد والصورة تتحدد ملامح الأصل والفرع وشجرة العائلة ، أي شجرة الانتماء ، كما أن البطاقة هي في حالة تجدد مستمر ن ومع كل تجديد يكون ميلاد جديد ولا تفنى إلا بفاء صاحبها أو صاحبتها ، وجنسية البطاقة تخترق الحدود لتدل على هوية صاحبها وصاحبتها.

    غير أن "الوجه" الذي يمثل الصورة على البطاقة ، والذي هو امتداد مضاعف للهوية يتمظهر وهو محمل برموز ودلالات اشتغلت عليها الساردة على مستوى السرد بكل دقة، حيث أصبح لهذا "الوجه" أبعاد سيميائية متداخلة : يتداخل من خلالها الواقعي بالمتخيل على مستوى اللغة . والصراع اللغوي الذي ألمحنا  إليه سابقا ، يكشف عن : 1 صراع واقعي بين :  أن تكون ...أو لا تكون ، 2 صراع رمزي : الفحولة/الذكورة مع الأنثى.
فالصراع الواقعي يتحدد على ارض الواقع من خلال المواجهة بين محتل ومواطنة ن حيث تحضر ثنائية : عراقية / كويتية.
ويتحدد الصراع الواقعي أيضا من خلال "الصورة" أو"الوجه"الذي يمثل صاحبة الصورة .حيث أصبح "الوجه"/"الصورة" والبطاقة يعنيا نفس الشيء ، وتؤشران على نفس الدلالات .فبعد تأزم الصراع اللغوي:"أنت عراقية رغم أنفك"-28- تم إنهاء هذا الصراع ب"هاي بطاقتك تحت رجلي روحي سوي بطاقة عراقية"-29- .
وبدل أن تتحسر الساردة على البطاقة بعد ردة الفعل التي صدرت عن الجندي العراقي:"لكنه بصلابة يصك على أسنانه يلقي بالبطاقة على الأرض يدوس عليها ،يسحقها على الإسفلت" فهي تتحسر على الوجه الذي يوجد في البطاقة:" آه يا وجهي الجميل"-30-  وتربطه بشكل مباشر ب" الوجه الآخر""ووجهه يتعفر بالشماتة والغضب"-31- وبالتالي نحصل على ثنائية تضاد أولى :
"آه ياوجهي الجميل" //"وجهه يتعفربالشماتةوالغضب"
 وتتناسل من هذه الثنائية ثنائية ثانية:
الوطن/ الجميل //المحتل /الشامت /الغاضب.
ومع الاستغراق في قراءة السرد ستتناسل الثنائيات تباعا ، كاشفة هذا الصراع اللغوي وامتداداته :"تلك أن ملوثة بعفار بسطا ره ، لاأجرؤأن أنحدر من السيارة ، وارفع وجهي ، امسح عليه ، واعتذر له ، وأحضنه بناظري كي يستعيد ابتسامته "-32-. فالتلوث يستحضر الطهارة والانحدار يستحضر مجازيا الخضوع، والرفع يستحضر مجازيا المقاومة ، والوجه يستحضر البطاقة .
والوجه داخل الصراع اللغوي هذا، يؤشر على الصراع بين الفحولة / الذكورة وبين الأنوثة.
فالأنوثة لم تعد- كما شائع في الأنساق الاجتماعية -  دليل ضعف .بل غدت دليل قوة وجرأة على المواجهة ن مواجهة الذكر الذي ، حسب عبد الله الغذامي ،" لا يستلب الأنثى فحسب ولكن هو نفسه يقع ضحية للاستلاب أيضا إذ يخضع للحس المتوحش في هذه الثقافة الفحولية، ويتمادى في استلاب المرأة لأنه يخاف من استلابها إياه إن لم يحافظ على سيطرته عليها"-33-. ولعل قمة هذه السيطرة هي التي تكشف عنها العبارة السالفة الذكر:"هاي بطاقتك تحت رجلي" ولكن الأنثى الساردة تواجه ذلك بأن تعيد الوضع إلى أصله أي محاولة الاحتفاظ ببطاقة الهوية،وكذلك كان :
-"قلت لك سوي بطاقة عراقية"
(..........)  
- سوف يطلبون إثبات هوية ،ولابد أن اسلم هذه هل أقول لهم أنك أخذتها ؟
أدرك انه غبي . شعرته خاف وكأنني اهدده .انحنى ووجهه ناحيتي متصورا ربما أنقض عليه.سحبها وقذفها من النافذة.سقطت في حضني سقوط طفل يعود إلى أحضان أمه"-34-

    لقد حاولنا من خلال هذا العمل مقاربة جزء بسيط من العمل القصصي " الحواجز السوداء" للكاتبة ليلى العثمان ن يتعلق المر على وجه الخصوص بالنص القصصي "للعباءة وجه آخر" و"البطاقة" حيث حاولنا إبراز أن المرأة عندما تربط ذاتها بالإبداع و ترهنها عنده ن فإن هذا الإبداع يتلون بمعاناة هذه الذات و جروحها ن آلامها وأحزانها ن أفراحها ومسراتها ن التي قد تمتد بامتداد الوطن وآماله.

 
إن تلقي السرد النسائي الخليجي بالمغرب ، من خلال نموذج: المجموعة القصصية "الحواجز السوداء" يتم من خلال عدة مستويات ن سأعيد التذكير بها ، كما وردت في هذا العمل التحليلي ، لكن بشكل مركز ومختصر :
1-   مستوى اللغة ، الذي من خلاله حاولنا تفسير النصين المقتطفين من "الحواجز السوداء"ن ويرىكريماس أن مبدأ التفسير يظل واحدا مؤكدا أنه"يجب البحث في اللغات الطبيعية عن الدلالات الاجتماعية .بتعبير آخر إن اللغات الطبيعية هي بمثابة دال signifiant تمكن من تمييز و معارضة الجماعات الاجتماعية في إطار انتمائهم إلى تجمعات لسانية تشكل في هذه الحالة المدلولsignifié حيث يتكون الدال من اللغات الطبيعية وتمفصلاتها"-35-
2-   مستوى الوعي : ذلك أن كل نص أدبي هو نتاج ظاهرة وعي ن أو بالأحرى لسلسلة من ظواهر الوعي . والتلقي على هذا المستوى يركز على الحدث السوسيوإيديولوجي حيث يتم تحديده كواقع وكحقيقة من خلال التشكل المادي داخل العلامات . والعلامة عند كريماسGreimas " هي جوهر اجتماعي لايمكن أن تستبدل إلا بأفراد (..) إنها تعطي للتواصل شكله المادي . وباستثمارها للوعي فهي ترسم إذن علامات لنمط اجتماعي معين"-36-، وكذلك لأنماط التفكير و طرق التعبير عن حدث محدد تتم صياغته إبداعيا مستنجدة بالواقعي والمتخيل.
3-   مستوى المقولات: هذه المقولات قسمها كريماس إلى ثلاث مقولات:
1-   مقولات وأنماط التجاور (Proxémique ) .
2-   مقولات وأنماط التشكل(Morphologique).
3-   مقولات وأنماط وظيفية(fonctionnels).              

فالمقولات الأولى تعتمد على مبدأ الفارق (l’ écart linguistique) ، وهذا الفارق ينشطر بدوره إلى فارقين: فارق صغير حيث تم تسجيل بعض الفرق على مستوى المعجم ونطق الحروف بين اللهجة العراقية واللهجة الكويتية . وفارق كبيريهم اللهجات في مقابل اللغة الوطنية الرسمية أي اللغة العربية للسرد. إن هذه المقولات الأولى تتسم بالبساطة لأنها تكشف عن معنى الهوية وأبعاده.

    أما المقولات الثانية أي المورفولوجية، فهي عكس الأولى تهتم بالتمفصلات الداخلية للمجتمعات وانعكاس ذلك على اللغة : نجد ذلك مثلا في قصص :وجوه خلف حاجز الذاكرة/وجه الذئب/الجراد ينهش المدينة/ ما قاله أبو صالح.....أما المقولات الثالثة أي الوظيفية ، فهي تهتم على المستوى السوسيولساني بحركية الأفراد بالنسبة للطبقات السوسيولسانية ، يتعلق الأمر بتحول الطبقات المورفلوجية إلى طبقات تركيبية.ففي المدموغة القصصية"الحواجز السوداء" نرصد التحول منخلال :"غريبان في عمان" ( على سبيل المثال لا الحصر)حيث نجد تحولا على المستوى السوسولساني ن أي انتقال من لغة تحاكي طبقات مورفلوجية معينة داخل طبقات اجتماعية لها هموم معينة مع الواقع المعيش، إلى مستوى لساني  سوسيوثقافي تحضر فيه الذات المثقفة وقد تكبلت بعدةإكراهات : الإحساس بالغربة في عمان نظرا لمساندة أهلها للعراق في غزوه /خيانة الأصدقاء /الحلال والحرام/ الضياع الكامل للمرأة والرجل( اللذان يمثلان الطبقة المثقفة)في صحراء الوطن العربي/ التشتت النفسي لكل من المرأة والرجل اللذين التقيا بعد عشرين سنة وهو تشتت متعدد لعدة أسباب منها الغزو، وقيم وأعراف المجتمع و خيانة الأصدقاء وذوبان الهوية العربية في هويات غربية ....
    
         كل هذا أدى إلى تحول في اللغة حيث أصبحت لغة مركبة في صيغة "خطاب فكري"
إن المجموعة القصصية"الحواجز السوداء"تضعنا كقراء أمام عدة حواجز رمزية سنعرضها لتكون خاتمة بحثنا هذا : تكتسي الحواجز أبعادا سيميائية ، فهي من خلال واضعيها تؤشر على محاولة تغيير الخريطة ،وبالتالي تغييرا لإنسان وتقزيمه وجعله مجرد ورقة تعريف يمكن تغيير هويتها بسهولة.
تؤشر" الحواجز السوداء "على اللامعقول/الفوضى/ اللاحوار/اللاتفاهم/اللاتواصل....
                
     كما تعيد "الحواجز السوداء" طرح العلاقة بين المرأة والمدينة ، وهي علاقة ترد بشكل ملح في الكتابات النسائية ، والإبداع النسائي بصفة عامة.

   إن ماقمنا به من تحليلات من خلال هذا البحث هو في الواقع ن إعادة للكتابة التي تعني أن" كل قراءة مركزة (.....) من شانها أن  تؤدي إلى ولادة كتاب أو نص جديد .إنها اعتراف واضح بقيمة الأثر(.....) ويعني أن له ما يكفي من الأهمية ليقوم قارئ من مجتمع معين أو جماعة محددة بنقل حصيلة قراءته إلى قراء آخرين ، أو إشراكهم في معرفته...."-37- . 


الهوامش:

1-   بثينة شعبان: 100عام من الرواية النسائية العربية/دار الآداب/بيروت/الطبعة الأولى/1999/ص- 13 .
2-   محمد نور الدين أفاية:الهوية والاختلاف/إفريقيا الشرق/الدار البيضاء/د.ت/ص-8.
3-   Pierre Daco/les voies étonnantes de la nouvelle psychologie/les nouvelles ed/Marabout/Verviers/1982/p- 213

4-   بثينة شعبان/100 عام من الرواية النسائية/مرجع مذكور/ص-23.

5-   نفس المرجع/ص-23-24.

6-   الهوية والاختلاف/ص-8-9

7-   الهوية والاختلاف/ص-36.

8-   رولان بارث: الكتابة والقراءة/ت: عبدا لرحيم زحل/تانسيفت- مراكش/الطبعة الأولى/1993/ص-33.

9-   Roland Barthes /S/Z /eddu seuil/1970/p-16

10-         R.Barthes/op.cit/p8
11 - -ليلى العثمان : الحواجز السوداء/منشورات المدى/دمشق/ط 3 /2000/ص-.148
12- روبرتس،هولاب/نظرية التلقي(مقدمة نقدية)/ت:خالد التو زاني و الجيلالي الكدية/   منشورات علامات/ط 1/ص-78.
13- ليلىالغثمان/ الحواجز السوداء/مرجع مذكور/ص-9
14- نفس المرجع/ص-9.
15- نفس المرجع/ص-9.
16- "       "/ص-10.
17- "       "/ص-10.
18- "       "/ص- 11.
19- "      "/ص- 17.
20- "      "/ص-17.
21- "      "/ص-14.
22- "      "/ص-23-24-25-26.
23- روبرت س.هولاب:نظرية التلقي/مرجع مذكور/ص-86.
24- نظرية التلقي/ص-85.
25- انظر بتفصيل مسألة الصراع اللغوي: Pierre Zima/Manuel de sociocritique/ collection connaissances des langues/D.L/mars 1985
26- جورج ماطو ري:منهج المعجمية/ت:عبد العلي الود غيري/منشورات كلية الآداب/ الرباط/المعارف الجديدة/الرباط/1993/ص-84.
27- منهج المعجمية/ص-84
28- الحواجز السوداء/ص-26.
29-    "          "/ص-26
30-  "           "/ص-26
31- "            "/ص-26
32- "            "/ص-27
33- عبد الله محمدالغذامي:المرأة واللغة/المركز الثقافي العربي/بيروت/1996/
34- الحواجز السوداء ص-2
35-/ed seuil/1976/p 84 Aj Greimas/sémiotique et sciences sociales 
 36- ibid. :p 84
37- إيمانويل فريس وبرنارموراليس:قضايا أدبية عامة /ت:لطيف زيتوني/عالم المعرفة/الكويت/فبراير-174-175    

ليست هناك تعليقات: